​الاتفاق بين طهران والرياض.. كل شيء يُمكن نسفه

> «الأيام» النهار العربي:

> لم يأت اتفاق المصالحة بين إيران والسعودية بالصورة الثورية التي تُصلح كل شيء وتُعيده إلى مساره الطبيعي، كما توقعنا من خطابات المنابر في طهران بأن المشكلة تكمن في الولايات المتحدة والغرب، ولولا وجودها لا نصلح حالنا.
والآن أتى هذا الاتفاق برعاية الصين البلد الصديق لضفتي الخليج، ومع ذلك تبدو خطوات المصالحة وكأنها تمضي في إطار مصالح متبادلة بين دولتين كبيرتين أكثر من فكرة مراجعة للسياسة الخارجية لإيران التي نسجت سياستها الخارجية بما يشبه شبكة خيوط العنكبوت، يمتزح فيها الناعم بالصلب والمُعلن والخفي.

ولذلك من الصعب أن نتوقع أي تغيير ثوري في سياسية إيران الخارجية، بما يدل إلى وقوع تغيير في طبيعة نظامها أو في سياستها الخارجية جذريا، بخاصة أن محددات السياسة الداخلية هي ما ترسم الخطوط الخارجية. والنظام الإيراني ما زال ينتهج سياسة داخلية ثابتة تجاه شعبه.
كذلك، فإن الخطوات المتبادلة التي اتُّخاذها منذ إعلان هذا الاتفاق، في 10(مارس) 2023، تأتي تنفيذا لبنود الاتفاق المُعلنة، التي هي خطوط عريضة لتفاصيل أخرى سرية.

وإن كان هذا يبعث على التفاؤل بجدية الاتفاق، لكن يمكن القول أيضا إن إيران الطرف المناط به تنفيذ بنود المصالحة أولا، تكرر الآن السياسة نفسها التي انتهجتها خلال محادثاتها النووية مع الغرب، وذلك بإقْرارها سياسة "خطوة تقابلها خطوة" التي تعبر عن هدوء أعصاب "حائكي السجاد".
وهو ما يعني عدم المسارعة في جني الثمار. فضلا عن فتح باب الاحتمالات على وقوع ما لا يحمد عقباه بما ينسف هذه المصالحة.
  • كل شيء يُمكن نسفه
إن اتفاق المصالحة يأتي استجابةً من طهران لمطالب أميركية في إطار المفاوضات النووية. هذا الاتفاق يمهد الأرضية للسياسة التي يدعمها الديموقراطيون في البيت الأبيض تجاه الشرق الأوسط، والتفرغ للتوجه نحو آسيا.
ولكن ماذا لو عاد الجمهوريون لحكم البيت الأبيض؟

 هذا هو سؤال الشارع في إيران، فالمواطن هناك يشعر بنتائج إيجابية من هذه المصالحة. لكن لديه أيضا قلق من رحيل إدارة الديموقراطيين بقيادة الرئيس جو بايدن، بخاصة أن الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، هو من أعلن الخروج من الاتفاق النووي عام 2018. واستثمر كثيرا في تأجيج التوتر بين إيران ودول الخليج العربي. ولذلك لدى هذا المواطن هاجس عودة ترامب مرة أخرى بما ينسف كل المكاسب الخارجية، التي يراهن الإيرانيون عليها في تحسين أوضاعهم في الداخل، بما في ذلك رفع العقوبات الغربية وإنعاش الاقتصاد المتأزم. فضلاً عن تفاؤله بدور سعودي في دفع المحادثات النووية بدلا من عرقلتها.

هذه المخاوف ليست هاجسا، بل احتمال ممكن، فهناك الآن معركة تدور في الولايات المتحدة الأميركية بين الرئيس بايدن وسلفه ترامب في إبعاد أحدهما عن سباق انتخابات البيت الأبيض 2024.

 كما أن سياسة الجمهوريين لا تقبل بتحالف المنافسين أو الأعداء. فإن كانت إدارة بايدن قد قبلت بوجود الصين في منطقة الخليج في إطار توظيف هذا البلد لحماية النفط الذين هم أكثر المستفيدين منه، فإن إدارة ترامب لا تقبل بسياسة التفرغ لمعركة "نحو آسيا" على حساب سيطرة الصين على الشرق الأوسط بشكل ما.

كما أن إدارة بايدن الديموقراطية لم تُنجز ما يضمن لها الفوز باكتساح خلال الانتخابات المقبلة، بينما الجمهوريون يراهنون على أخطاء هذه الإدارة، فقد قال وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو إن الحرس الثوري الإيراني تجرأ وهدد حلفاء واشنطن وشركاءها بجعل الشرق الأوسط بأكمله أقرب إلى الحرب؛ بسبب القيادة الضعيفة للولايات المتحدة. وهذا يفسر أن الجمهوريين يستفيدون من سياسية تصاعد التوتر لتحجيم أعدائهم.

ربما كانت القوة الحقيقة الضامنة لهذا الاتفاق بيد إيران أكثر منها في يد السعودية أو إدارة البيت الأبيض، لأنه بالنسبة إلى السعودية فهي اعتمدت سياسة تنوع الحلفاء ولم تعد تثق بالولايات المتحدة التي وقفت تتفرج عليها في عهد الرئيس ترامب، بينما منشآتها النفطية كانت تُهاجمها جماعة الحوثي اليمنية المدعومة من إيران. لكنها أيضاً لن تقبل مجددا مراوغة إيران أو الاستمرار في سياسة الابتزاز التي اعتمدتها عبر هجمات المليشيات، بخاصة أن الرياض لديها إرادة للتركيز على رؤية 2030 لدعم محاور التنمية الجديدة. لذلك فإن سلوك طهران هو الضمان الوحيد لقوة هذا الاتفاق.
  • تحييد الميليشيات لا تفكيكها
تدل التحركات الأخيرة لمليشيات إيران في سوريا ولبنان والعراق إلى أن اتفاق المصالحة لا يعني انكماش دور هذه المليشيات في المنطقة، بل تحييد تهديداتها عن المنطقة الخليجية، فقد توقفت الميليشيات الحوثية عن استهداف المصالح الخليجية، لكن الميليشيات في سوريا ولبنان لم تتراجع عن توجيه الضربات لإسرائيل.

 وهذه الرؤية اتضحتْ في خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، بخصوص "يوم القدس العالمي"، يوم الجمعة الماضي، بقوله إن "الاتفاق الإيراني-السعودي له تأثيرات كبيرة على المنطقة وسيبطئ مسار التطبيع". كما أثنى على الحوار في اليمن، إلى جانب عملية إطلاق الصواريخ المجهولة الأخيرة ضد إسرائيل. فضلا عن التأكيد أن إيران هي الداعم الحقيقي للمقاومة بقيادة السيد علي خامنئي.

وبذلك، أراد نصر الله أن ينقل وجهة النظر الإيرانية بأن الهدف من اتفاق المصالحة مع السعودية هو تفكيك احتمال أي تحالف إقليمي ضد طهران.

وهذه الرسالة نفسها، خرجت من طهران بلسان رجل الدين المتشدد وصهر الرئيس الإيراني، أحمد علم الهدى، الذي قال خلال خطبة الجمعة الماضية إن المصالحة مع السعودية لا تعني انتهاء دور محور المقاومة.
  • معضلة السياسة الإيرانية
النظام الإيراني مارس على مدار سنوات دبلوماسية "المرونة البطولية" كما سماها المرشد الأعلى علي خامنئي، أفرزت متوالية مُعقدة من العلاقات في المنطقة، بات من الصعب تفكيكها دفعة واحدة. لأن هذا النظام مارس سياسة خارجية هجينة. ولذلك، تنتظر البحرين ماذا ستسفر عنه المصالحة بين طهران والرياض! حتى تُعيد فتح سفارتها. ومصر أيضا وبلسان وزير خارجيتها سامح شكري، ربطت ترقية علاقاتها مع إيران بتقييم تطورات اتفاق المصالحة. وإن كان العراق والأردن قد لعبا دورا في الوساطة بين طهران والقاهرة، لكن هذا التمهل يرجع إلى معضلة تركيبة السياسة الإيرانية، إذ يُمكن أن يعود السفير الإيراني إلى القاهرة، لكن إلى أي مدى سيلتزم الأعراف الدبلوماسية ولا يتورط بما يمثل تدخلا في الشأن الداخلي لمصر أو تتورط طهران في ملف "حماس" أو السودان أو ليبيا أو إثيوبيا؟

هذه المعضلة السياسية تنسحب أيضاً على لبنان الذي يعاني الصراعات الإقليمية، والذي حوّلته إيران إلى صندوق رسائل لخصومها. فهذا البلد يعيش فراغا سياسيا وأزمة اقتصادية حادة منذ الشغور الرئاسي الذي بدأ في 1(نوفمبر) 2022. والمؤسف أن طهران استغلت هذا البلد بعد اتفاق المصالحة لإعلان استراتيجيتها الجديدة في إدارة ميليشياتها، فإطلاق مجموعة فلسطينية صواريخ على إسرائيل من جنوب لبنان الخاضع لهيمنة "حزب الله"، كان رسالة تأكيد لاستمرار تماسك محور المقاومة الإيراني من طهران إلى فلسطين مرورا من مسار الهلال الشيعي الإيراني (بغداد ودمشق وبيروت).

ومع ذلك، لدى اللبنانيين آمال بانفراج غُمّتهم بعد هذه المصالحة، ويدركون جيدا أن ذلك لن يحدث ما دامت الأزمة في اليمن لم تنته. فالسياسة الإيرانية المركبة والمعقدة دفعت "حزب الله" اللبناني إلى دعم الحوثيين بالسلاح والعتاد والخبراء، بل إن الضاحية الجنوبية لبيروت (العاصمة السياسية لـ"حزب الله") كانت مركزا إعلاميا داعما للحوثيين.

 وليس تشاؤما القول بأن السلام لن يأتي إلى العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن إلا أن يؤتي اتفاق المصالحة ثماره. لأن الخلاف عميق بين طهران والرياض حول الوضع وكيفية معالجته في هذه الدول. واتفاق المصالحة فرصة لتأكيد حوار جاد ليرى كل طرف مدى التزامه تجاه الآخر. أو كما يمكن تسميته "إدارة التوتر"! الاتفاق بين طهران والرياض لا يعني سحب إيران أنفَها من التدخل في شؤون بعض الدول، بل يعني تنظيم تقاسم النفوذ بما لا يضر مصلحة طرف على آخر.
  • ضمانة المكاسب الاقتصادية
تعد المكاسب الاقتصادية الحافز الأهم لهذا الاتفاق والضمانة له، بخاصة أن لدى كل من طهران والرياض قلق الخروج من الخريطة الاقتصادية الجديدة للعالم أو التخلف عنها. فإن الاستثمارات السعودية في إيران يمكن أن تنتشلها من أزمتها الاقتصادية. والصين أيضاً التي وقعت اتفاقية استراتيجية مع إيران، لن تأتي إلى هذا البلد ما دام لديه توتر مع دول جواره الذين تربطهم معها علاقات استراتيجية.

كما يمكن للمصالحة أن تساعد طهران على تفعيل ممر "شمال جنوب" الذي ترهن به استراتيجيتها التنموية؛ فإن المصالحة مع دول الخليج تفتح الطريق لتجارة هذه الدول نحو شرق آسيا وأوروبا عبر ممر إيران.

لكن هذا لا يمكن تفعيله لمجرد مبدأ المصالحة، فإن كانت طهران يمكن أن تعقد علاقات تجارية مع دول الخليج، لكن لا يمكنها تحصيل أموالها ما لم توافق على عضوية مجموعة العمل المالي لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (فاتف).

 وهذه العضوية لن يتم تمريرها في مجالس اتخاذ القرار لديها إلا إذا تم التوصل إلى اتفاق نووي مع الغرب، وتم رفع العقوبات عنها لتضمن ألا يتم اتخاذها آلية لمحاصرة قنواتها التي تستفيد منها في تخطي العقوبات الغربية. وهذا الاتفاق لن يتم ما دامت طهران تحمل تهديداً تجاه المنطقة أو تجاه الغرب. وهكذا هي دائرة المتاهة الإيرانية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى