ملكة سبأ بين الجدل التاريخي والتدوين الأسطوري.. دراسة تحليلية في ضوء النص القرآني (الحلقة الثامنة عشرة)

توفيق السامعي
الجمعة ، ٣٠ يونيو ٢٠٢٣ الساعة ٠٢:١٤ مساءً

 

دفن ملكة سبأ والملوك

أين دفنت ملكة سبأ؟.. لا توجد أية إشارة أو دلالة جازمة حتى اليوم بمكان دفنها ودفن كثير من الملوك قبلها أو بعدها أو تخصيص مقابر وترب خاصة بالملوك، كما في مصر مثلاً، ولذلك يعتبر الكشف عن مكان دفنها، أو دفن الملوك الآخرين، مهمة شاقة للباحثين، ومخاطرة في ذات الوقت، حتى لا تتعرض للتنبيش والنهب من قبل لصوص الآثار.  يتبادر إلى الذهن أنه ما دام الأثيوبيون الوحيدين الذين يذكرون الملكة ومكان دفنها ويعظمون قبرها، ويقولون إنها مدفونة عندهم، في حين أن اليمنيين لا يكادون يعرفون أين دفنت، فلا نستبعد ذلك كنوع من أنواع الاستنتاج والفرضية لا الجزم اليقيني, فقد كانت مملكة سبأ تمتد إلى أكسوم في أثيوبيا وتنزانيا وغيرها، ولو أنهم يقيمون لذلك ضريحاً رمزياً بعكس اليمنيين، ويبدو أنها سافرت في عهدها الأخير لزيارة الطرف الآخر من مملكتها فتوفيت هناك وتم دفنها في الحبشة، وصار متواتراً بعدها ومعلوماً مكان الدفن، مع أنهم بنوا اعتقادهم في أنها ملكتهم على الروايات والأساطير الإسرائيلية، وكل هذه الأمور تبقى مؤقتة حتى يتم الكشف الأثري عنها على أساس من النصوص واللقى الأثرية الأخرى الدالة عليها. غير أنه بتتبع القصة الأسطورية عند الأثيوبيين فهي لم تكن ذات بعد زمني كبير مثلاً ترجع إلى قبل الميلاد، بل إن أسطورة ملكتهم أو أمهم Makeda (ملكة سبأ) وأم ولدها "منيلك" أنتجت في القرن الرابع عشر الميلادي، كما سيأتي، بمعنى أنها في زمن متأخر، وأخذت من الرواية التوراتية الأسطورية بشكل رمزي ولا يترتب عليها أية نتائج جازمة أو قريبة حتى من الجزم. فاليمنيون - مع إجماعهم واهتمامهم أنها ملكتهم ومنهم وإليهم- لا يتداولون البتة مكان قبرها ودفنها، كما يفعل الأثيوبيون! فهم لا يجازفون بالقول عن مكان دفنها حتى لا تتعرض تربتها وتربة الملوك للنبش والتخريب بحثاً عن الكنوز للنهب والبيع وتدمير حضارة اليمن، فضلاً عن جهلهم بمكان دفنها أيضاً. وقد استغرب جرومان أن اليمنيين كما اهتموا بالعمران فوق الأرض لم يهتموا بالمقابر والدفن كما فعل فراعنة مصر. يقول الأستاذ أدولف جرومان: "من الغريب حقاً كيف أن شعباً يبذل مجهوداً عظيماً في سبيل تشييد المعابد والأبراج ووسائل الري المختلفة، ولا يبدي مثل هذه العناية في سبيل المقابر. ففن البناء العربي الجنوبي القائم على البساطة ترك هنا أثره أيضاً. فالمقابر مختلفة، وعملية الدفن مختلفة أيضاً إذا كان المتوفى يوارى في تابوت قائم زوايا الأركان ومن الحجر وعليه غطاء. وغالباً ما نجد عدداً من المقابر في صعيد واحد"( ).  لا شك أن الملوك من بعدها، سواء المتصلين لها بالنسب والقرابة إن لم تتزوج، أو أبناءها وأحفادها (لو تزوجت) لكانوا أقاموا لها قبراً عظيماً ومعظماً كما عند الفراعنة، خاصة وأنهم عرفوا التحنيط قبل الفراعنة وبدقة أكثر مهارة منهم وهم المتحكمون بالمواد الخام لهذا التحنيط، أو على الأقل قلدوهم في قبوريتهم. ومن هنا لو تم الكشف عن مقابر ملوك سبأ لكان كشفاً عظيماً يضاهي مقبرة الملوك الفراعنة، وقد تكون تلك القبور أسفل معبد أوام نفسه بحيث إنه صمم كمعبد ومدفن في ذات الوقت، وهو ما دأبت عليه بعض الجماعات كالصوفية مثلاً، وقد يكون لعادتهم تلك أصل من حضارة أو تقليد قديم، خاصة وأنه يسمى بالحرم. هناك ملاحظة أخرى وهامة، وهي لو أنها تزوجت وأنجبت لوجدنا أية إشارة لنسلها من بعدها سواء كانوا ملوكاً أو أقيالاً أو أتباعاً...إلخ، كسلسلة أسرية تاريخية كما عند بعض الملوك الآخرين، فليس من المعقول أن ملكة بذاك القدر من العظمة، وحدثاً بقدر ذلك من العظمة في اللقاء واتباع ديانة أخرى، وحشد جيوش عظيمة من مختلف الكائنات على دولتها ولا نجد لذلك أي أثر أو إشارة!  لقد كان السبئيون - ملوكاً وشعوباً- من أكثر الشعوب والدول اليمنية تدويناً لأحداثهم سواء كانت كبيرة أو صغيرة، ولا شك أن حدثَ تهديدٍ خارجي لدولة سبأ كالذي فعله النبي الملك سليمان تجاه دولة سبأ لم يكن حدثاً عابراً ولا خطراً بسيطاً ليمر دون تدوين، وكذلك زيارة الملكة لهذا النبي الملك، وضرب أكباد الإبل شهوراً بمواكب ضخمة لتصل تلك المواكب إليه في الشام، وما ترتب من نتائج عن تلك الزيارة من تحول تاريخي ضخم بأن قلب ديانة ومعتقدات المملكة رأساً على عقب ليصير تبعاً للديانة اليهودية، وبالتالي فإننا لن نكون مستقبلاً أمام نقش أو نقشين أو بضعة نقوش تتحدث عن هذه الحوادث كلها والتحول التاريخي، بل سنجد عشرات إن لم تكن مئات النقوش، بانتظار الكشف عنها، وما ستثري به المعرفة الإنسانية من معلومات ليس لليمن وحسب بل للعالم أجمع. لم تكن آثار ملكة سبأ التي قابلت سليمان هي وحدها الغائبة، بل إن آثار سليمان نفسه غائبة، فالقرآن الكريم ذكر لنا بعضاً من تفاصيل آثاره مما خلفته الجن والشياطين؛ فالشياطين كل بنّاء وغواص؛ بمعنى هناك أبنية بنوها كحالة الصرح الممرد من قوارير مثلاً، وهيكله، وقصره.. أين هي لا يوجد لها أثر؟! نفس الأمر فإن الشياطين ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾( ). فلا وجود لتماثيل، ولا للجفان العظيمات، ولا للقدور الأضخم، وهي من العظم والكبر ما لا يمكن دفنها أو إزالتها أو ذوبانها إلا أن تكون انتهت بانتهاء ملك سليمان تحقيقاً لدعوته وطلبه من الله أن يمنحه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده  ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾( ).  ومن الغريب العجيب أن يتلازم مُلك ملكة سبأ مع مُلك سليمان وتنتهي مظاهر وآثار المُلْكَين بعدهما، رغم أن الإسرائيليين يبذلون كل طاقاتهم وإمكانياتهم الضخمة للحصول على أبسط إشارة تدل على ملك سليمان في فلسطين عامة والقدس خاصة، والاستعانة بإمكانيات أخرى من أمريكا وأوروبا لذات الأمر، ولم يستطيعوا العثور على أية إشارة لملك سليمان هناك أو مملكتهم بشكل عام، وهذا يقودنا إلى القول أن القدس ليست مقر مملكة سليمان. وبالعودة إلى الوصف الجغرافي للقرآن الكريم في ذكر مكان مملكة داود التي ورثها ابنه سليمان فإنها لا تشبه القدس وفلسطين؛ فمملكة داوود وسليمان في القرآن تذكر جبالاً وودياناً، وجيش طالوت الذي أسس المملكة عبر نهراً للوصول للمدينة المذكورة. فقد ورد في القرآن الكريم عن مملكة داوود ومكانه قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾( )، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾( )، ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾( ). والجبال بالضرورة يترتب عليها وجود وديان، والوديان وردت في قصة سليمان ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾( )، والقدس لا يوجد بها جبال كما هي بقية الجبال والمرتفعات، ولا يوجد بها إلا هضاب صغيرة لا تساوي شيئاً أمام الجبال الراسيات. .....يتبع

الحجر الصحفي في زمن الحوثي