ملكة سبأ بين الجدل التاريخي والتدوين الأسطوري.. دراسة تحليلية في ضوء النص القرآني (الحلقة الأخيرة)

توفيق السامعي
الجمعة ، ٠٧ يوليو ٢٠٢٣ الساعة ٠٣:١٨ مساءً

 

تابع ملكة سبأ وعلاقتها بالحبشة

"خلال عامي 1961 وحتى 1963 أجرى كل من (أنفاري وأنكوين) حفريات أثرية في الهضبة الحبشية جنوب تجري في قرية مطر، وعثروا على نقش JE2825 =RIEA61. وفي عام 1965 قام ر. شينايدر  R. Schneider بترجمة النص دون أن يتنبه إلى اسم العلم (س م هـ ع ل ي)، وهو نص مكتوب بالحرف واللغة السبئية وعلى طريقة خط المحراث strophedon)) أي البدء بالكتابة من اليمين إلى اليسار ثم العودة من اليسار إلى اليمين حتى نهاية النقش"( ). وفي عام ١٩٧٦م نشر (Wissmann H. von) كتاباً تناول فيه النقش بالدراسة والتحليل، خلص فيه إلى أن اسم العلم المذكور في هذا النقش هو نفسه اسم المكرب السبئي المشهور:  سمهعلي ينوف بن ذمار علي، الذي حكم حوالي ٥٤٥ ق.م، ولأهمية النقش سنورد فيما يلي النص وترجمته.   JE2825= RIEA61 ١ - ث ر س م م/ و ر.. ث/.. ع ث ت ر/ و ب  ٢ - أ ل م ق هـ / و ب ذ ت ح م ي م / و ب ذ ت ب ع د ن/  و ب/ س م هـ ع ل ي / و ب / ل م ن/ أ م ر أ هـ.. الترجمة:  يصعب قراءة السطر الأول غير أن ذكر الإله عثتر ثم الإله المقه في السطر الثاني، يذكرنا بخواتيم النقوش اليمنية القديمة.  السطر الثاني: المقه وبذات حميم وبذات بعدان وبـ سمه علي وبـ لمن، أمرأهم..  وقد خلص فون فيسمان بأن الهضبة الحبشية في القرن السادس ق.م كانت خاضعة للدولة السبئية وعاصمتها مارب( ). ولكننا هنا نخالف هذا الاستنتاج الذي ذهب إليه فيسمان من أن سمهعلي ينوف كان في القرن السادس ق.م؛ لأن هذا النوع من الخطوط، وهو المحراث، والاستعمال كان في المرحلة الأولى المبكرة في عهد المكاربة فقط، وترد صفة سمهعلي ينوف في كل النقوش على أنه مكرباً وليس ملكاً؛ وهذا النمط من الخط تغير في مرحلة الملوك، ونجد أن نقش النصر مثلاً في القرن السابع قبل الميلاد دون بالخط المعروف من اليمين إلى اليسار فقط دون المحراث، أي قبل التاريخ الذي ذكره فيسمان. فأول كتابة بخط المحراث "والموسومة بGlaser 1147 من كتابات أيام هذا المكرب [سمهعلي]. وهي كتابة قصيرة مكتوبة على الطريقة الحلزونية كأثر كتابات أيام المكربين"( ). ومن خلال بعض المتابعات والملاحظات فإن خط المحراث كتبت به فترة المكاربة فقط، وعند نهاية فترة المكاربة تحول الخط من المحراث إلى الخط المعروف من جهة واحدة وهي جهة اليمين. وقد انتهت مرحلة المكاربة في عهد كرب إل وتار في القرن السابع ق.م، حسب أقوال أغلب المؤرخين والباحثين، لتبدأ معه فترة الملوك. وقد ورد اسم سمهعلي من أوائل مكاربة اليمن السبئيين؛ حسب القوائم المصنفة، وبالأخص هنا الجمهرة الثانية من قائمة هومل( )*، رغم أن هذه القوائم محيرة وغير مرتبة بل ومرتبكة من قائمة لأخرى عند مؤرخ وآخر، ويرجعون إليه الكثير من الإنجازات وبدايات الدولة السبئية حتى الآن فقط، قبل أن يستجد جديد من الأبحاث، على أن مؤرخين آخرين أوردوه في فترة القرن التاسع ق.م، وعليه فإن هذا النقش الحبشي كان في الفترة الأولى للمكاربة السبئيين يعود للقرن التاسع أو الثامن ق.م، بحسب الأدلة التي أوردناها، الأمر الذي يعني أن هجرات اليمنيين إلى الحبشة سبقت هذا التاريخ بكثير. وتقدم النقوش المكتشفة هناك– من حيث لغتها وخطها ومضمونها، وأن ذلك الطراز المعماري وأسلوب النحت – دليلاً على ذلك، فقد عثر على مجموعة كبيرة من النقوش المكتوبة بالحرف العربي الجنوبي – المسند – ولغتها سبئية، تتضمن أسماء آلهة وأشخاص وأمكنة وردت في النقوش( ). فمن خلال نقوش أخرى نجد أن الأحباش أنفسهم أخذوا كل التقاليد عن اليمنيين بما في ذلك ألقاب ملوكهم؛ فلقب مكرب لملوك أحباش ظهر بعد ذلك في بعض النقوش، وهم يجمعون بين لقب الملك والمكرب مع بعضهما، ومن ذلك مثلاً النقش الموسوم بـ +JE1384 RIEA5 = يذكر ما يلي:  A ١ - ل م ن/ م ل ك ن/ ص رع ن/ ي ج ع ز ي ن/ م ك ر ب/ د ع م ت/ و س ب أ / ب ن/ ر ب  ٢ - ح/ م ل ك ن/ ح ي و و / و هـ ح د س و/ م ذ ق ن ت / أ و س ن/ ب ي ت م و / ي و م /  B ١ - م ل ك م / د ع م ت / م ش ر ق هـ ي/ و م ع ر ب هـ ي/أ د م هـ ي/ و س ل م هـ ى / ب ن  ٢ - خ / ع س ت ر/ و هـ ب س / و أ ل م ق هـ/ و ذ ت ح م ي م / و ذ ت ب ع د ن/. فهنا يدور الحديث عن رجل اسمه ل م ن من قبيلة (ي ج ع ز ي ن) بصفته مكرب لمنطقة (د ع م ت) شرقها وغربها.  وفي نقش آخر يحمل الرقم RIEA8= JE4 نقرأ في السطر الأول والثاني:  ١ - رب ح/ م ل ك ن/ ص ر ع ن/ ي ج ع ز ي م/ م ك ر ب / دع م ت  ٢ - و س ب أ/ ب ن/ و ع ر ن/  وهنا أيضاً حديث عن مكرب (د ع م ت..).  هذان النقشان يعودان بالباليوجرافيا إلى العقد الأخير من القرن الخامس ق. م، وهي فترة شهدت خلالها جنوب جزيرة العرب اضطرابات واسعة نتج عنها إهمال لهذه المناطق، سهلت أمر انفراد قبيلة (ي ج ع ز ي ن) بالحكم في الحبشة. أما ذكر اسم سبأ في النقشين، فالمقصود ليست سبأ العربية وفي الجنوبية وإنما أحد ثلاثة موانئ حبشية تحمل نفس الاسم. هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الحبشة لا نعرف نقشاً يرد فيه ذكر أكسوم أو الحبشة، التي كانت تعظم الآلهة السبئية، وتتخذ السبئية لغة لها. ونستطيع القول أن هذه الفترة من تاريخ الحبشة يمكن بحق أن نطلق عليها مرحلة (يحا) نسبة إلى القرية التي عثر فيها على عدد كبير من اللقى والنقوش العربية الجنوبية( ). مع توسع مملكة سبأ بحركة مروحية شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً، ومع أنها دولة تجارية بامتياز كانت تسيطر على التجارة العالمية القديمة بفعل الموقع الجغرافي وطرق الملاحة البرية والبحرية، سيطرت على الضفة الأخرى من البحر الأحمر في الحبشة عبر موجات من الهجرات المتتالية إليها سواء للتجارة أو النزوح من الحروب والبطش، أو للتوسع وبسط النفوذ، وقد كانت الحبشة محطة من محطاتها التجارية الكثيرة غرباً، ومصدراً لبعض السلع منها. وبفعل تلك الموجات من الهجرات والسيطرة اضطر السبئيون لتأسيس دولة هناك لحماية تجارتهم، بعد ربطها وربط تلك الجاليات بالوطن الأم في مملكة سبأ/ كما فعلوا في وسط وشمال الجزيرة العربية (كندة، ددان العلا، ومعان، وغيرها)، كما ذكرها القرآن الكريم ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾( ). في كل مملكة أو دولة يكون لزاماً من لوازم الملك والحكم أن يتفقد الملك مملكته ورعيته وزيارة مناطقها، وبالتالي فمن المنطق تماماً أن تكون ملكة سبأ قد زارت الحبشة وربما توفيت هناك؛ إذ لا شاهد - حتى الآن- ولا دليل مادي بوجود قبرها سواء في مارب أو الحبشة، مع أن الأثيوبيين يقيمون ضريحاً رمزياً لها هناك ويقدسونه. وإذا كان بعض المؤرخين والنقاد يشككون في أن ملكة سبأ من سبأ اليمنية لبعد المسافة بينها وبين مملكة سليمان، فكيف إذا كانت من الحبشة واضطرارها لركوب البحر وقطع القفار؟! فإذا عرفنا كماً هائلاً من هذه المعلومات للترابط التاريخي والنشأة بين الدولة الحبشية واليمن، وخاصة الدولة السبئية منها، عرفنا سر تمسك الأحباش بالانتساب إلى ملكة سبأ التي اصطلح على تسميتها في المصادر الكلاسيكية بأن اسمها هو (بلقيس) اليمن. لم تكن النقوش وحدها الدليل على تابعية الحبشة لمملكة سبأ، بل إن معبد  "يحا" في عدوليه مخطط بنفس محرم (بلقيس)، وقد قارن بينهما الأستاذ أدولف جرومان ووجد كثيراً من الخصائص والتشابه بينهما في الفن المعماري( ). كما لم تكن المعابد والعروش والنقوش وحدها التي نقلت من بلاد العرب الجنوبية إلى أفريقيا، بل "أخذ العرب الجنوبيون هذا الفن المعماري معهم إلى أفريقيا، حيث نجد سد (كوهينو) الذي يذكرنا بالعرب الجنوبيين"( ).  لم تكن فكرة المعابد فقط هي المنقولة إلى الحبشة من البلاد العربية الجنوبية، بل إن تخطيط ونمط هذه المعابد بكل تفاصيلها منقولة إلى هناك*. "والأساطير والقصص الحبشية تقول إن الملك الحبشي هو ابن الأنثى الشمسية المسماة (ماكد) أو (بلقيس)، والبطل القمري (حكيم) سليمان"( ).   وقد ذكر بعض العلماء تأثير اليمنيين في الحبشة وعلاقتهم بأكسوم، ومنهم ديتليف نيلسن الذي قال: "ليس الساميون الذين خلفوا لنا في بلاد الحبشة آثاراً وآداباً والذين مازالوا حتى اليوم يقيمون في البلاد هم العنصر الأصلي الذي يتكون منه السكان الأصليون، بل هم - فيما يعتقد- كغيرهم من الساميين الشماليين قد هاجروا إليها من بلاد العرب، وذلك لأن لغتهم عبارة عن لهجة عربية جنوبية، وما زالت إلى اليوم قريبة إلى العربية بالرغم من دخول بعض العناصر الحامية فيها. أما اللغة، أما الخط، أما الثقافة فسبأية منذ البداية، وذلك لأن بعض المهاجرين من البلاد العربية الجنوبية نزحوا إلى البلاد فيما يظهر في قرون بعيدة قبل الميلاد أسسوا هناك مستعمرات، ووضعوا الأساس لدولة الحبشة التي أخضعت فيما بعد في القرن السادس الميلادي بلاد العرب الجنوبية لسلطانها"( ). تبين بعض النقوش السبئية الموجودة في مارب، وخاصة نقش علهان نهفان بن يريم أيمن بن أوسلت رفشان بن همدان، النقش المرموز إليه بـ ( CIH 308)، أول علاقة بين الحميريين الريدانيين وبين مملكة أكسوم في الفترة التاريخية المتوسطة، قبل الاحتلال الحبشي العام الأول لليمن، وذلك حينما استنجد علهان نهفان بملك أكسوم الحبشي (جدرت) وعقد معه اتفاقية دفاع مشترك بعد تمرده على ملوك سبأ وإعلان نفسه ملكاً على سبأ وذي ريدان، وكان (جدرت) ملكاً على أكسوم خلال الفترة من 200 الى 220 ميلادية( ). بالنظر والمقارنة بين سَمْتْ وصفة وتقاسيم وجوه الأحباش سنجد أن وجوههم وأبدانهم طولاً أو قصراً، وكذا صورهم وملامح وجوههم هي نفس الملامح لليمنيين مع فارق بسيط في أن الأثيوبيين أكثر سمرة من اليمنيين، لكن بقية التفاصيل تكاد تكون واحدة بعكس الأفارقة الذين يكونون أكثر سواداً، وأنوفهم غليظة وفطساء وفتحاتها كبيرة. يشعر الأثيوبيون، من خلال مخالطتهم، برابطة وجدانية عجيبة تجاه اليمن واليمنيين سواء روحياً أو ثقافياً أو إنسانياً؛ فاليمنيون أكثر اندماجاً وترحيباً بين الأثيوبيين من الشعوب الأخرى، حتى من شعوب أفريقية أخرى. وأية أحداث تحدث في اليمن تتأثر بها أثيوبيا مباشرة؛ فتتم هجرات يمنية ونزوج جماعي كبير إليها في مختلف العصور، والعكس كذلك؛ عند اضطراب أثيوبيا تكون اليمن أكثر الشعوب تأثراً بالهجرة الأثيوبية إليها، واندماج الأثيوبيين مع اليمنيين في بلادهم، وحتى الأثيوبيون يقولون: نحن أصولنا من اليمن، واليمن بلدنا الأول( ). وإذاً.. كان العلماء يقرون أنه لا توجد ثقافة مدونة ومكتوبة ومصادر تاريخية للحبشة على أكثر تقدير إلى القرن الثالث عشر الميلادي، ولم تبلغ إلى القرن الرابع الميلادي وقت دخول المسيحية إلى الحبشة، كما يقول ديتليف نيلسن: "نعم لدينا من القوائم التي تحتوي على كثير من أسماء ملوك يرجع تاريخهم إلى ما قبل العهد المسيحي، لكن هذه المصادر من الفقر والنقص بمكان حتى أنها لا تسمح للمؤرخ بأن يكون منها تاريخاً علمياً حقاً"( ). وبالعودة إلى معلومات أسفار العهد القديم، وأخذ الأثيوبيين منها مصادر معلوماتهم حول قصة ملكة سبأ التي يطلقون عليها تسمية (ماكيدا) علينا أن نشير إلى أن تأليف تلك الكتب كانت بعد العودة من مرحلة السبي البابلي؛ أي بعد فترة سليمان بقرون، وهنا سيعتري تدوين المعلومات لفترت سليمان الزيادة والنقصان؛ لأنها ستعتمد على الروايات الشفهية والذاكرة الجمعية للأجيال في تذكر الأحداث التي لن تسلم من التحريف زيادة أو نقصان؛ أي إننا لن نقف على دقة المعلومات الجازمة في تلك الأحداث واللقاءات، فضلاً عن إيراد دقة المصطلحات والمعلومات، خاصة وما من كتابات أو نقوش خلفتها تلك الزيارة والمقابلة، أو لم تظهر حتى الآن، حتى إن بعض علماء اليهود، وكذلك المؤرخين واللغويين، يقولون إن تلك الأسفار التوراتية لا يصح الاستشهاد بها لغوياً لدلالة بعض ألفاظها اللغوية كونها تأثرت بالبابليين وبالآرامية التي ناصبها اليهود العداء، رغم أن المتعارف عليه تاريخياً أن الآرامية أصل للعبرية، فبين نزول التوراة على موسى وتأليف العهد القديم بعد الأسر البابلي قرابة ألف عام! تبين من خلال الدراسات التاريخية واللقى الأثرية والنقوش - كدلائل مادية- أن بعض أسفار اليهود التي تحدثت عن محيط بني إسرائيل لم تكن دقيقة، بحيث حيرت العلماء "لأنهم تعاملوا مع تلك النصوص التوراتية على أنها تشير إلى شعوب مجمل إقليم المشرق العربي، ولم يقبلوا حتى الآن أن بني يسرائيل* كانوا أحد أقوام المشرق العربي الصغيرة التي لم تخلف أي أثر عنها"( ).  "علماً أن سفر التكوين سُجل، كباقي أسفار التوراة، في مرحلة متأخرة. وقد تم ذلك في بابل البعيدة عن المسرح الجغرافي لتجربة بني يسرائيل الدينية – التاريخية، ومن قبل أشخاص ليس لهم معرفة بتضاريس الإقليم الجغرافية والسكانية"( ). وهذا ما أكده إسرائيل ولفنسون، كأحد مؤرخي اليهود والحضارات القديمة، بأنه "في عهد المكابيم [قضاة اليهود] ظهرت الشيعة اليهودية المعروفة بالفروشيم التي أطلقت لفظ حبر على كل متعلم من اليهود، وإلى هذه الشيعة يرجع الفضل في جمع صحف العهد القديم، وجمع تفاسير هذه الصحف المقدسة التي ظل تدوينها حملة قرون، حيث عرفت في ختامها باسم المشنا، وقد تم ذلك الكتاب في القرن الثاني قبل الميلاد( ). ومن أجل ذلك لا يعجب الباحث حين يجد اللغة العبرية قد أضاعت أغلب مميزاتها القديمة، وتغير أسلوبها، حتى بدت عليها مسحة آرامية واضحة في كل شيء، فقد حل استعمال كثير من الألفاظ الآرامية محل الألفاظ العبرية، وتشوه كثير من نطق الألفاظ العبرية"( ).

الحجر الصحفي في زمن الحوثي